فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحشر: الجمع للحساب، لكن سيُحشَرون على وجوههم؛ لذلك لما نزلت هذه الآية سألوا رسول الله: كيف يمشُون على وجوههم قال صلى الله عليه وسلم: «الذي أمشاهم على أرجلهم، قادر أن يُمشيهم على وجوههم» فالذي يمشي على وجهه كالذي يمشي على بطنه، ولعله يُجَر جرًا، سواء أكان على وجهه أو على شيء آخر، ثم إن الإنسان لا ينبغي له أن يسأل عن أمور هي مناط القدرة المطلقة.
والحق تبارك وتعالى يُوضِّح هذه المسألة في قوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور: 45].
إذن: المشْي لا ينحصر في الحالات التي نعرفها فقط، إنما هي طلاقة القدرة التي تفعل ما تشاء.
لكن، لماذا لم يذكر القرآن أسماء هؤلاء الأشخاص الظالمين المعاندين للإسلام؟ قالوا: هذا من باب إرخاء العِنَان للخَصْم، وكلمة العنان تأتي بكسر العين وفتحها، واللغويون يقولون: هي على وزن ما هي بمعناه، فإنت قصدتَ بها عَنان السماء فهي على وزن سَحَاب، وإن أردتَ بها عِنان الفرس، فهي على وزن لِجَام.
وراكب الدابة إنْ أرخى لها العِنان تركها تسير كما تشاء، كذلك الحق تبارك وتعالى يُرخِي للخصم العِنان ليقول كل ما عنده، وليأخذه إلى جانبه، لا بما يكره، بل بما يحب. وقد علَّم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يردُّ عليهم ويجادلهم الجدل الهادىء بالتي هي أحسن. فحين قالوا عنه مفتر، وعن القرآن مُفترىً ومكذوب ردّ عليهم: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38].
ثم يترقَّى في جدالهم: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35] وفي آية أخرى يرد عليهم: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
وهل النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف مَنْ على الهدى ومَنْ على الضلال؟ لا شكَّ أنه إرخاء العِنان للخصم، يقول لهم: أنا وأنتم على طَرَفي نقيض: أنا أقول بإله واحد وأنتم تُكِّذبون قولي، فأنا متناقض معكم في هذه القضية، والقضية لابد أن تأتي على شكل واحد، فإمَّا أنا على الهدى، وإمّا أنتم، وأنا لا أدّعي الحق لنفسي.
إذن: المطلوب أنْ تُعمِلوا عقولكم لِتُميِّزوا مَنْ مِنّا على الهدى ومَنْ منّا على الضلال، وكأن رسول الله يرتضي حكومتهم في هذه المسألة، وما ترك لهم رسول الله الحكمَ إلا وهو واثق أنهم لو تجردوا من الهوى لعرفوا أن الحق معه، وأنه على الهدى، وأنهم على الضلال.
إذن: عندما تكلم القرآن عن كفار قريش الذين تعنتوا في اقتراحاتهم، وعاندوا وآذوا رسول الله بكل أنواع الإيذاء، ومع ذلك حينما تكلم عنهم جاء بأسلوب عام فقال: الذين ولم يقل هؤلاء، بل جاء بالقضية العامة ولم يُواجههم بالجزاء مما يدلّ على التلطف في أمر الدعوة، وهذا نوع من استمالة الخَصْم لنقطع منه شراسة العداء والعناد.
لذلك يخاطب الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] كأنك لم تَلِنْ لهم بطبْعك؛ لأن عنادهم وأذاهم كان سيُرغم طبْعك على أن تكون قاسيًا معهم ولكن رحمة الله شملتْك فَلِنْتَ لهم {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
هذا يعني أن الداعية لابد أن يكون رَحْب الصدر، رَحْب الساحة، ذلك لأنه يُخرِج أهل الضلال عما أَلِفوه إلى شيء يكرهونه، فلا تُخرجهم من ذلك بأسلوب يكرهونه، فتجمع عليهم شدتين، إنما تلطَّفْ معهم، كما قال عز وجل لموسى وهارون عندما أمرهما بدعوة فرعون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44].
لأن الذي بلغ من عناده أنْ يتكبّر لا على المخلوقين أمثاله، إنما يتكبّر على الخالق فيدّعي الألوهية لابد أنْ تأتيه بأسلوب ليِّن لطيف.
وفي آية أخرى يُعلِّم الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يجادل المشركين، فيقول سبحانه: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا} [سبأ: 25] وهل يُتصوَّر الإجرام من رسول الله؟! وفي المقابل: {وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] مع أن منطق الجدل هنا أن يقول: ولا نُسأل عما تُجرِمون، لكنه نسب الإجرام لنفسه، ولم يذكره في حَقِّ الآخرين، فهل هناك تلطُّفٌ وترقيق للقلوب فوق هذا؟
الحق تبارك وتعالى يعرض لكل هذه المسائل ليثبت أن رسوله صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على إيمان قومه، وأنه لم يدّخِرْ وُسْعًا في سبيل هدايتهم وجَذْبهم إليه؛ لدرجة أنه حمّل نفسه فوق ما يطلبه الله منه، حتى قال له ربه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6].
وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
يعني: مُهلكٌ نفسك من أجل هدايتهم، وما عليك إلا البلاغ، ولا يقول له ربه هذا الكلام إلا إذا كان قد عَلِم منه حِرْصًا ورغبة أكيدة في هداية قومه.
ومعنى: {أولئك شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34] قوله تعالى: {شَرٌّ} [الفرقان: 34] ولم يقُلْ أشر؛ لأن معناها: أن الجهة الثانية فيها شر، وهذا أيضًا من إرخاء العِنان للخصم. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)}.
قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام} وصف سبحانه هاهنا بعض حوادث يوم القيامة، والتشقق التفتح، قرأ عاصم والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وأبو عمرو: {تشقق} بتخفيف الشين، وأصله تتشقق، وقرأ الباقون بتشديد الشين على الإدغام.
واختار القراءة الأولى أبو عبيد، واختار الثانية أبو حاتم، ومعنى تشققها بالغمام: أنها تتشقق عن الغمام.
قال أبو علي الفارسي: تشقق السماء، وعليها غمام كما تقول: ركب الأمير بسلاحه أي: وعليه سلاحه، وخرج بثيابه أي: وعليه ثيابه.
ووجه ما قاله: أن الباء وعن يتعاقبان كما تقول: رميت بالقوس.
وعن القوس، وروي أن السماء تتشقق عن سحاب رقيق أبيض، وقيل: إن السماء تتشقق بالغمام الذي بينها وبين الناس.
والمعنى: أنه يتشقق السحاب بتشقق السماء، وقيل: إنها تشقق لنزول الملائكة، كما قال سبحانه بعد هذا: {وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلًا} وقيل: إن الباء في {بالغمام} سببية أي: بسبب الغمام، يعني: بسبب طلوعه منها كأنه الذي تتشقق به السماء، وقيل: إن الباء متعلقة بمحذوف أي: ملتبسة بالغمام.
قرأ ابن كثير: {وننزل الملائكة} مخففًا من الإنزال بنون بعدها نون ساكنة، وزاي مخففة بكسرة مضارع أنزل، والملائكة منصوبة على المفعولية.
وقرأ الباقون من السبعة {ونُزِل} بضم النون، وكسر الزاي المشدّدة ماضيًا مبنيًا للمفعول، وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء: {نزل} بالتشديد ماضيًا مبنيًا للفاعل، وفاعله الله سبحانه، وقرأ أبيّ بن كعب: {أنزل الملائكة} وروي عنه: أنه قرأ: {تنزلت الملائكة} وقد قرىء في الشواذ بغير هذه، وتأكيد هذا الفعل بقوله: {تَنْزِيلًا} يدلّ على أن هذا التنزيل على نوع غريب، ونمط عجيب.
قال أهل العلم: إن هذا تنزيل رضا ورحمة لا تنزيل سخط وعذاب.
{الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} الملك مبتدأ، والحق صفة له وللرحمن.
الخبر، كذا قال الزجاج: أي: الملك الثابت الذي لا يزول للرحمن يومئذٍ، لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك في الحقيقة، وفائدة التقييد بالظرف أن ثبوت الملك المذكور له سبحانه خاصة في هذا اليوم.
وأما فيما عداه من أيام الدنيا، فلغيره ملك في الصورة، وإن لم يكن حقيقيًا.
وقيل: إن خبر المبتدأ هو الظرف، والحق نعت للملك.
والمعنى: الملك الثابت للرحمن خاص في هذا اليوم {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الكافرين عَسِيرًا} أي: وكان هذا اليوم مع كون الملك فيه لله وحده شديدًا على الكفار لما يصابون به فيه، وينالهم من العقاب بعد تحقيق الحساب، وأمّا على المؤمنين فهو يسير غير عسير، لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى العظيمة.
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} الظرف منصوب بمحذوف أي: واذكر، كما انتصب بهذا المحذوف الظرف الأول، أعني: {يوم تشقق}، {ويوم يعضّ الظالم على يديه}، الظاهر أن العضّ هنا حقيقة، ولا مانع من ذلك، ولا موجب لتأويله.
وقيل: هو كناية عن الغيظ والحسرة، والمراد بالظالم: كلّ ظالم يرد ذلك المكان، وينزل ذلك المنزل، ولا ينافيه ورود الآية على سبب خاص، فالإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب {يَقُولُ ياليتنى اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلًا} {يقول} في محل نصب على الحال، ومقول القول هو: يا ليتني، إلخ، والمنادى محذوف أي: يا قوم {ليتني اتخذت مع الرسول سبيلًا} طريقًا، وهو طريق الحق، ومشيت فيه حتى أخلص من هذه الأمور المضلة، والمراد: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.
{يا ويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلًا} دعاء على نفسه بالويل والثبور على مخاللة الكافر الذي أضله في الدنيا، وفلان كناية عن الأعلام.
قال النيسابوري: زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلاّ حكاية، لا يقال: جاءني فلان.
ولكن يقال: قال زيد: جاءني فلان، لأنه اسم اللفظ الذي هو علم الاسم، وكذلك جاء في كلام الله.
وقيل: فلان كناية عن علم ذكور من يعقل، وفلانة عن علم إناثهم.
وقيل: كناية عن نكرة من يعقل من الذكور.
وفلانة عمن يعقل من الإناث، وأما الفلان والفلانة فكناية عن غير العقلاء، وفل يختص بالنداء إلاّ في ضرورة كقول الشاعر:
في لجة أمسك فلانًا عن فل

وقوله:
حدّثاني عن فلان وفل

وليس فل مرخمًا من فلان خلافًا للفراء.
وزعم أبو حيان أن ابن عصفور وابن مالك وهما في جعل فلان كناية علم من يعقل.
وقرأ الحسن {يا ويلتي} بالياء الصريحة، وقرأ الدوري بالإمالة.
قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن، لأن أصل هذه اللفظة الياء، فأبدلت الكسرة فتحة، والياء التاء فرارًا من الياء، فمن أمال رجع إلى الذي فرّ منه.
{لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر بَعْدَ إِذْ جَاءنِى} أي: والله لقد أضلني هذا الذي اتخذته خليلًا عن القرآن، أو عن الموعظة، أو كلمة الشهادة، أو مجموع ذلك.
بعد إذ جاءني، وتمكنت منه، وقدرت عليه {وَكَانَ الشيطان للإنسان خَذُولًا} الخذل: ترك الإغاثة، ومنه خذلان إبليس للمشركين حيث يوالونه، ثم يتركهم عند استغاثتهم به، وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، أو من تمام كلام الظالم، وأنه سمى خليله شيطانًا بعد أن جعله مضلًا.
أو أراد بالشيطان: إبليس لكونه الذي حمله على مخاللة المضلين.
{وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرءان مَهْجُورًا} معطوف على {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}، والمعنى: إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن الذي جئت به إليهم، وأمرتني بإبلاغه، وأرسلتني به مهجورًا متروكًا لم يؤمنوا به، ولا قبلوه بوجه من الوجوه.
وقيل: هو من هجر إذا هذى.
والمعنى: أنهم اتخذوه هجرًا، وهذيانًا.
وقيل: معنى مَهْجُورًا: مهجورًا فيه، ثم حذف الجار، وهجرهم فيه قولهم: إنه سحر، وشعر، وأساطير الأوّلين، وهذا القول يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وقيل: إنه حكاية لقوله في الدنيا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيّ عَدُوًّا مّنَ المجرمين} هذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن الله سبحانه جعل لكلّ نبيّ من الأنبياء الداعين إلى الله عدوًّا يعاديه من مجرمي قومه، فلا تجزع يا محمد، فإن هذا دأب الأنبياء قبلك، واصبر كما صبروا {وكفى بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} قال المفسرون: الباء زائدة أي: كفى ربك، وانتصاب {نصيرًا} و{هاديًا} على الحال، أو التمييز أي: يهدي عباده إلى مصالح الدين، والدنيا، وينصرهم على الأعداء.